علم أسباب النزول
يعدّ علم أسباب النزول من العلوم الهامّة الّتي أولاها العلماء عناية خاصّة؛ فأفردوا لها المؤّلفاتٍ الخاصّة، وبذلوا كثيرًا من الجهود من أجل تدوينها، وقد اهتموا بكل ما اتصل بنزول القرآن الكريم من حوادث وقضايا الزمان والمكان.
تفسير آية عبس وتولّى
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 1-12]، نزلت هذه الآية في سيّدنا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، حيث اتفقّت الروايات في أسباب النزول انّ مجموعةً من أشراف وصناديد قريش كانوا يجلسون مع النبيّ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الإسلام فجاءه عبد الله ابن أم مكتوم، وقال للنبيّ علّمني وأقرئني ما علّمك الله وكرّر ذلك عليه، فأعرض عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكره مقاطعته له، فنزلت هذه الآيات الكريمة معاتبةً لرسول الله حتّى أنّه صار كلّما رآه قال له: (أهلًا بمن عاتبني فيه ربّي) ويسأله إن كانت له حاجة.
وردت تفاسير عدّة في مقاصد هذه الآية وأسلوبها، فقد أورد صاحب روح المعاني أنّ استعمال عبَسَ بصيغة الغائب، هي من باب الإجلال والإكرام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من باب الإيهام بأن هذا الفعل لا يصدر عنه عليه الصلاة والسلام وإنّما يكون لسواه، وبعد ذلك جاء ضمير الخطاب في مخاطبته بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3] من باب الإقبال بعد الإعراض، وَوُصف ابن أم مكتوم بالعمى لإعطائه العذر في مقاطعة نبي الله محمد صلّى الله عليه وسلم في كلامه. أمّا عبوسه عليه أفضل الصلاة والسلام لا يتنافى مع ما جاء عنه من حسن خلقٍ وأمرٍ بالاقتداء به؛ فهو بَشرٌ ويصيبه ما يصيب البشر من أعراض، كالغضب والسرور، والمرض والصحّة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم تظهر على ملامحه علامات العبوس والفرح والحزن في حال رأى شيئًا يسرّه او يكرهه.
فوائد معرفة أسباب النزول
تندرج تحت هذا العلم فوائد عدّة تفيد القرّاء والمفسرين لكتاب الله عزّ وجلّ، وهي:
- إعانة القارئ لكتاب الله على فهمه فهمًا صحيحًا سليمًا.
- بيان أنّ القرآن الكريم منزلٌ من عند الله تعالى ولا شأن لأحدٍ من البشر فيه، فكثيرًا ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُسألُ عن مسألةٍ ما، فيتوقّف عن الإجابة حتّى ينزل عليه الوحي مبينًا لهذا الأمر.
- تسهيل حفظ كتاب الله وتثبيت معانيه، فربط الآيات والأحكام بالحوادث، ومعرفة الأشخاص والأزمنة والأمكنة يساعد على استقرار وتركيز المعلومات.
- تأكيد عناية الله عزّ وجلّ بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم من خلال الدفاع عنه، وعن فراشه وتطهيرًا له من ما أثاروه عليه الأفّاكون، كما حصل في حادثة الإفك.
- يمكّن القارئ من معرفة الحكمة من تشريع حكم ما، فكثير من الآيات يصعب تفسيرها وتحديد المراد منها بسبب الجهل بأسباب النزول.
- عناية الله عزّ وجلّ بعباده وتفريجًا لكرباتهم، ومثال ذلك آية التيمم، قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
- علّى القارئ والمفسر لكتاب الله أن يكون على معرفة بأسباب النزول كي يفهم كتاب الله فهمًا صحيحًا ويكون على بصيرةٍ من كتاب ربه.