مظاهر الازدهار الحضاري

الازدهار الحضاري

تواصلت الحضارات مع بعضها البعض منذ الأزل عن طريق تبادل الثقافات والمعارف فيما بينها، فأخذ الاتصال بينها عن طريق التحاور والتعارف والتلاقح، هذا التبادل الثقافي من معارف وعلوم وفنون بين الحضارات كان له الإسهام الأكبر في تطور الفكر الإنساني وتقدّم الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وهو المرآة التي تعكس ظواهر التأثير بين الحضارات المختلفة، فعلى سبيل المثال كان لانتقال المعارف الفلسفية اليونانية من الحضارة الإغريقية للرومان والعرب الأثر الأبرز في صقل زوايا النظر الفكرية عند الحضارتين، وكذلك الأمر بالنسبة لفنون العمارة التي انتقلت من محصلة المعارف العمرانية التي اكتسبها العرب والمسلمون في الأندلس، ناهيك عن العلوم الدنيوية الأخرى التي برزت تلك الفترة، فكانت مثالًا يحتذى به على مر التاريخ فيما يخص التواصل الثقافي بين القديم والحديث والمتجدد، ومما لا شك فيه أن محتويات التواصل الثقافي والمعرفي بين الحضارات ولّد شكلًا مفعمًا بالحيوية من أشكال الازدهار الحضاري، الذي انصهرت فيه أفكار ثقافات الحضارات المتباينة لتكون مزيجًا متجانسًا مرت من خلالها ثقافات جديدة لحضارات نشأت فيما بعد[١].


مظاهر الازدهار الحضاري

تتمثل أهم الملامح التي تميز الازدهار الحضاري بما يأتي[٢]:

  • بناء المدن والمجمعات السكنية: من أهم الملامح الجلية في وقتنا الحالي التي تصلنا بالحضارات القديمة بناء المدن وتشييدها، فتجد في الحضارات الخالدة ما شيدته من معابد وحمامات وأماكن للترويح عن النفس والساحات الضخمة والملاعب الرياضية وغيرها، كذلك شق قنوات المياه وبناء الطرق والسدود والجسور، كما وضعت نظمًا إداريةً لإدارة هذه المدن والتجمعات السكنية للإشراف عليها من قبل الحاكم الأعلى، كما بنت بعض الحضارات المستوطنات خارج حدود أراضيها، وأبقت على تبعيتها وولائها للحكومة المركزية، ومع مرور الوقت إلا أنه لا زالت العديد من هذه المدن قائمةً وكأنها تتحدى عجلات الزمان.
  • الحركات العلمية: عند استقرار الناس في مدنهم وتجلي الأمن فيما بينهم، تظهر الحاجة الماسة لتغدية الفكر والعقل، فتبرز حينها التيارات الفكرية والعلمية التي تمتلئ بالمعارف الزاخرة، فتنتشر حركات الترجمة والتأليف وطباعة الكتب، وتنتقل الأفكار والعلوم والفنون بحرية بين مختلف فئات المجتمع، فتزيد من وعي الأفراد وعوام الناس وتدفعهم لبذل المزيد في طلب العلم، حتى لو بلغ ببعضهم الأمر إلى الارتحال من مكان لآخر، بل لحضارات وبلاد أخرى أبعد من حدود بلادهم الأم، فيعكفون على المكوث فيها عدّة سنين لتحصيل ما يمكنهم تحصيله من علوم، وللحركات العلمية والفكرية الدور الأبرز في انتقال المعارف بين الحضارات المختلفة.
  • الحركات التجارية: لطالما انتقلت البضائع والسلع من بلاد إلى أخرى عن طريق البر والبحر، وفي عصرنا الحالي تنقل بعض البضائع جوًا، كما أن التجارة هي العصب المغذي لاقتصاد البلدان في كل وقت، فحتى في القديم كانت حركات التجارة نشطةً للغاية، فكانت كما حركة النمل الذي يسير ذهابًا وإيابًا، فتنوعت البضائع المطروحة في الأسواق وزاد الطلب على بعضها دون الآخر، مما رفع من مستويات الرفاهية في تلك المجتمعات، وعزز سبل التواصل بين البلدان المختلفة، فكان ثمة شيءٌ تسلل على متن القوافل التجارية مع التجار، هي أفكارهم التي حملوها عما شاهدوه في الحضارات الأخرى من تقدم وازدهار وصناعات وفنون، لتصل في نهاية المطاف إلى بلادهم حين عودتهم.
  • التوسعات الجغرافية: وصلت بعض الحضارات لمراحل متقدمة من الازدهار، إذ أصبحت تتطلع نحو السيطرة على جيرانها وحتى ما هو أبعد من ذلك، إما عن طريق المفاوضات وتقديم التنازلات وإما عن طريق الحرب، وبالنسبة لتلك البلاد التي يسود فيها التقدم والازدهار وتكثر فيها الأموال من الحركات التجارية والصناعية وغيرها؛ فلا بد أن يكون لها جيش قوي مجهز ومدرب ومهيّأ لخوض الحروب والمعارك في أي وقت على نحو تام، فتبدأ في ابتلاع جيرانها الأضعف والأقل قوةً منها لتصبح فيما بعد امبراطوريةً مترامية الأطراف كبيرةً، فرضت هيمنتها الثقافية والعسكرية والسياسية والاقتصادية على البلاد الأخرى الضعيفة، وليرتفع مؤشر ازدهارها لدرجات أعلى من ذي قبل، فكلما زاد حجم البلد زادت قدراته وموارده الطبيعية والبشرية؛ والتي تُعد من أهم مقومات الازدهار في البلاد والحضارات.


النظرة الإسلامية للحضارة

يرى الإسلام أن الحضارة في أصلها مرتبطة بالأيدولوجيات والدين بشكل وثيق، فما هي إلا تجسيد للاعتقاد الديني لفئة بشرية معينة، فكل من الازدهار الحضاري والدين يخدمان الغاية العظيمة نفسها، فهما يعطيان الحياة معنًى واضحًا، وهذا أمر إيجابي حول علاقات الحضارة والدين، وتنبع الرؤية الإسلامية للحضارة من منطلقات الدين الإسلامي، ونظريته الشاملة للكون والحياة وشؤون الناس، وقد تجاوزت هذه النظرة الإطار الديني الذي يحددها الإسلام في العبادات وأداء الطاعات، إلى التربية الشاملة للفرد، وجعله إيجابيًا في حياته الدنيوية، ساعيًا للخير، وعمارة الكون، ناشدًا رضا الله وجناته في الآخرة، من خلال القيم والأخلاق والعقيدة الخلاقة، والقيم الإنسانية العليا التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، كما أن الحضارة الإسلامية لطالما كانت عالميةً منذ القديم، فقد سمحت بالتميّز الجغرافي الإقليمي بين الدول الإسلامية الكبرى.

على الرغم من التميز بين هذه الأقاليم الإسلامية في مسيرة حضارتها الزاهرة، إلا أنها متشابهة في الروح والخصائص المميزة لها أيًّا كان ميدانها، ولقد أثرى التميز الإقليمي الفنون الإسلامية، مستمدًا العطاء الحضاري لهذه الدول، وهو عطاء ضارب في القديم وموغل بحكم الكثافة السكانية لهذه الدول، وما تقدمه من علماء وفنانين، وهو بعيد عن البعد القومي العربي، إلا أن الحضارة الإسلامية هي حضارة عربية في المقام الأول لاعتبارين مهمين، الأول أن اللغة العربية هي اللغة الأساسية التي سجلت بها إبداعات هذه الحضارة كما أنها الرباط القوي الذي ساهم في تحقيق وحدة فكرية بين أهلها، أما الثاني فهو أن العرب كانوا بمثابة حجر الزاوية في بناء هذه الحضارة واللبنة الأولى فيها، وأن مختلف الشعوب المسلمة وغير المسلمة انضوت تحت الحكم العربي ثم استعربوا، واكتسبوا مكانتهم السامية في ظل حكم العرب وفي رحاب دولتهم المترامية[٣].


المراجع

  1. "حضارة"، المعرفة، اطّلع عليه بتاريخ 28-4-2019.
  2. زكب الميلاد، تعارف الحضارات (الطبعة الاولى)، دمشق: دار الفكر، صفحة 52,56.58.60.
  3. "الحضارة الاسلامية وتناسخ الحضارات"، مدونات الجزيرة، اطّلع عليه بتاريخ 28-4-2019.

فيديو ذو صلة :